
تشكل الزيارة الحالية لفخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني إلى واشنطن، بدعوة رسمية من الرئيس الأمريكي دونالد ج. ترامب، محطة بارزة في التاريخ الدبلوماسي الحديث لموريتانيا. إذ تتمحور هذه القمّة، رفيعة المستوى، والتي تضم فقط خمس دول إفريقية، تم اختيارها بعناية، حول فرص التجارة والاستثمار.
بيد أنها تحمل في طياتها دلالات واضحة، تتجاوز بكثير المجال الاقتصادي. إنها شهادة قوية على المكانة المتنامية لموريتانيا، كشريك موثوق في إفريقيا، وكمنارة للاستقرار في منطقة الساحل المضطربة، ولاعب اقتصادي ناشئ يتمتع بثقل استراتيجي متزايد.
مكانة دبلوماسية بزخم استراتيجي
إن توجيه دعوة من أكبر قوة اقتصادية وعسكرية في العالم لحضور قمة مغلقة يحمل في طياته دلالات استراتيجية لا يمكن إنكارها. فهي تمثل إعادة تموضع في سياسة الولايات المتحدة تجاه إفريقيا — إذ أضحت تعترف بالدول القادرة والمستقرة وذات المواقع الجيوستراتيجية كمحاور رئيسية في نظام عالمي متغير.
إن اختيار موريتانيا ليس صدفة، بل يعكس دورها المتزايد في تحقيق الاستقرار الإقليمي وأهميتها في الحسابات الاستراتيجية الدولية.
الموقع الجغرافي الفريد لموريتانيا
يُعدّ الموقع الجغرافي لموريتانيا من أبرز نقاط قوتها. فعلاوة على كونها همزة وصل بين شمال إفريقيا وإفريقيا جنوب الصحراء، فهي تطل على المحيط الأطلسي، وتنتمي إلى العالمين العربي والإسلامي، مما يجعلها “خط وصل” جيوسياسي طبيعي بين قارات وحضارات. ولم يغب هذا الموقع الفريد عن أذهان المخططين الاستراتيجيين في واشنطن، الذين باتوا ينظرون إلى موريتانيا ليس فقط كشريك إفريقي، بل أيضًا كجار بحري عبر المحيط الأطلسي.
لاعب إفريقي موثوق على الساحة العالمية
تعكس دعوة موريتانيا إلى واشنطن صعود مكانتها في الدوائر الدبلوماسية الإفريقية والدولية. ففي ظل قيادة فخامة الرئيس غزواني، نجحت البلاد في ترسيخ الاستقرار الداخلي، وشاركت بفعالية في جهود حل النزاعات الإقليمية، من منطقة الساحل إلى منطقة البحيرات الكبرى.
وبصفته رئيسًا سابقًا للاتحاد الإفريقي، لعب الرئيس غزواني دورًا محوريًا في صياغة سياسات القارة وتمثيل صوتها في المحافل الدولية. وقد كانت مشاركته الأخيرة في قمة مجموعة العشرين — ليس بصفة مراقب، بل كعضو كامل — لحظة تاريخية للاتحاد الإفريقي وإنجازًا دبلوماسيًا كبيرًا. كما عكس فوز مرشح موريتانيا، السيد سيدي ولد التاه، برئاسة البنك الإفريقي للتنمية، الثقة الكبيرة التي تضعها القارة الأفريقية في القيادة الموريتانية.
نموذج للاستقرار في الساحل
رغم أن منطقة الساحل تُعرف بعدم الاستقرار والإرهاب والأزمات الإنسانية، إلا أن موريتانيا سلكت طريقًا مختلفًا. فقد نجحت في الجمع بين إصلاحات هيكلية عسكرية مدروسة، واستراتيجيات استخباراتية استباقية، وتعاون إقليمي فعال، مما جعلها واحة استقرار في منطقة مضطربة. وتُعزز مشاركات موريتانيا في عمليات حفظ السلام الإقليمية — بما في ذلك إرسال قوات إلى جمهورية إفريقيا الوسطى — صورتها كشريك موثوق وصاحب خبرة في جهود الأمن العالمي.
وليس من الغريب أن تحظى هذه السمعة باهتمام بالغ من واشنطن، خاصة في سياق مكافحة الإرهاب والأمن العابر للحدود.
ثروات طبيعية وفرص اقتصادية غير مستغلة
بعيدًا عن السياسة والأمن، تدعم المؤشرات الاقتصادية أهمية هذه الزيارة. فموريتانيا بدأت تبرز كاقتصاد غني بالموارد، خاصة الغاز الطبيعي واليورانيوم والمعادن الإستراتيجية. وتعد شركة Kosmos Energy الأمريكية من اللاعبين الرئيسيين في قطاع الغاز الموريتاني، كما أن آفاق الاستثمار في الهيدروجين الأخضر باتت تجذب اهتمامًا متزايدًا من المستثمرين والمبتكرين الأمريكيين.
ومن المتوقع أن تسهم هذه القمة في تعزيز مشاركة الشركات الأمريكية، وفتح آفاق جديدة للشراكات التجارية، وتثبيت موقع موريتانيا كرابط حيوي في أمن الطاقة عبر الأطلسي والتنمية المستدامة.
النهوض بحقوق الإنسان: أولوية مشتركة
يلتقي التزام موريتانيا بترقية وحماية حقوق الإنسان مع القيم والمصالح الأمريكية. فقد أحرزت البلاد تقدمًا ملحوظًا في مكافحة الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين — وهما من أبرز أولويات الولايات المتحدة. ويعكس تصنيف موريتانيا ضمن الفئة الثانية في تقرير وزارة الخارجية الأمريكية السنوي حول الاتجار بالبشر، إلى جانب دول مثل سويسرا واليابان والنرويج، هذا التقدم. وقد ساهم ذلك في أهلية موريتانيا للاستفادة من تمويلات مؤسسة تحدي الألفية (MCC) الأمريكية، وإعادتها للاستفادة من مزايا قانون النمو والفرص الإفريقية (AGOA).
وتعزز هذه الإنجازات مصداقية مؤسسات موريتانيا وحُكمها الرشيد على الساحة الدولية.
آفاق مستقبلية: مكاسب ملموسة متوقعة
لا تقتصر زيارة واشنطن على الرمزية؛ بل يُنتظر أن تثمر عن مكاسب اقتصادية واستراتيجية فعلية. فقد طلبت عدة شركات أمريكية لقاءات مباشرة مع الرئيس غزواني، ما يعكس اهتمامًا متزايدًا بقطاعات الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا الرقمية والزراعة. وبالنظر إلى تفضيل الرئيس ترامب للدبلوماسية القائمة على النتائج، فإن الوفد الموريتاني في موقع جيد لإبرام اتفاقيات عملية تعود بالنفع على البلدين.
خاتمة: فصل حاسم في السياسة الخارجية لموريتانيا
تمثل مشاركة موريتانيا في هذا المحفل الرفيع إشارة واضحة إلى أن البلاد دخلت مرحلة جديدة في علاقاتها الدولية — مرحلة تقوم على الشراكات الاستراتيجية، والفرص الاقتصادية، والدبلوماسية المسؤولة. إن زيارة الرئيس غزواني لواشنطن لا تعزز العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة فحسب، بل ترفع أيضًا من شأن موريتانيا في صياغة مستقبل التعاون الإفريقي-الأمريكي.
هذه ليست مجرد قمة، إنها رسالة: موريتانيا منفتحة على الاستثمار، ملتزمة بالسلام، ومستعدة للريادة.
سيدي محمد الإمام